نماذج مؤمنة ونماذج كافرة
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] نماذج مؤمنة ونماذج كافرة
من كتاب:’في ظلال القرآن’ للأستاذ/ سيد قطب رحمه الله
في ثنايا التوجيهات والتشريعات القرآنية- ذلك المنهج الرباني الكامل للحياة البشرية- يجد الناظر في هذه التوجيهات منهجًا للتربية، قائمًا على الخبرة المطلقة بالنفس الإنسانية ومساربها الظاهرة والخفية; يأخذ هذه النفس من جميع أقطارها، كما يتضمن رسم نماذج من نفوس البشر واضحة الخصائص، جاهرة السمات حتى ليخيل للإنسان وهو يتصفح هذه الخصائص والسمات أنه يرى ذوات بعينها تدب في الأرض وتتحرك بين الناس، ويكاد يضع يده عليها وهو يصيح هذه هي بعينها التي عناها القرآن.
وفي هذا الدرس نجد الملامح الواضحة لنموذجين من نماذج البشر :
الأول: نموذج المرائي الشرير، الذلق اللسان الذي يجعل شخصه محور الحياة كلها: والذي يعجبك مظهره ويسوؤك مخبره، فإذا دعي إلى الصلاح وتقوى الله؛ لم يرجع إلى الحق، ولم يحاول إصلاح نفسه، بل أخذته العزة بالإثم، واستنكف أن يوجه إلى الحق والخير، ومضى في طريقه يهلك الحرث والنسل.
والثاني: نموذج المؤمن الصادق الذي يبذل نفسه كلها لمرضاة الله، لا يستبقي منها بقية، ولا يحسب لذاته حسابًا في سعيه وعمله.
وعقب عرض هذين النموذجين؛ نسمع هتافًا بالذين آمنوا ليستسلموا بكليتهم لله دون ما تردد، ودون ما تجربة لله بطلب الخوارق والمعجزات كالذي فعلته بنو إسرائيل حين بدلت نعمة الله عليها وكفرتها. ويسمى هذا الاستسلام: دخولًا في السلم، فيفتح بهذه الكلمة بابا للتصور الحقيقي الكامل لحقيقة الإيمان بدين الله، والسير على منهجه في الحياة كما سنفصل .
وفي مواجهة نعمة الإيمان الكبرى وحقيقة السلام التي تنشر ظلالها على الذين آمنوا يعرض سوء تصور الكفار لحقيقة الأمر، وسخريتهم من الذين آمنوا بسبب ذلك التصور الضال، ويقرر إلى جانب ذلك حقيقة القيم في ميزان الله :{…وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ…[212]}[سورة البقرة].
يلي هذا تلخيص لقصة اختلاف الناس، وبيان للميزان الذي يجب أن يفيئوا إليه ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، وتقرير لوظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويتطرق من هذا إلى ما ينتظر القائمين على هذا الميزان من مشاق الطريق; ويخاطب الجماعة المسلمة فيكشف لها عما ينتظرها في طريقها الشائك من البأساء والضراء والجهد الذي لقيته كل جماعة نيطت بها هذه الأمانة من قبل؛ كي تعد نفسها لتكاليف الأمانة التي لا مفر منها، وكي تقبل عليها راضية النفس مستقرة الضمير; تتوقع نصر الله كلما غام الأفق وبدا أن الفجر بعيد.
الدرس الأول: نموذج المنافق الكاذب، والمؤمن الصالح:
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[204]وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ[205]وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[206]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[207]}[سورة البقرة].
هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة السعادة والطهارة على الناس..هذا الذي يعجبك حديثه، تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الصلاح {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ}. زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار.. هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره.. هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان.
حتى إذا جاء دور العمل ظهر المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وإذا انصرف إلى العمل كانت وجهته الشر والفساد في قسوة وجفوة ولدد تتمثل في: إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ولا يحب المفسدين الذين ينشئون في الأرض الفساد ولا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس .
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض، وأهلك الحرث والنسل، ونشر الخراب والدمار، وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد.. إذا فعل هذا كله، ثم قيل له: اتق الله تذكيرًا له بخشية الله والحياء منه، والتحرج من غضبه؛ أنكر أن يقال له هذا القول، واستكبر أن يوجه إلى التقوى، وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب، وأخذته العزة لا بالحق ولكن بالإثم، فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به وأمام الله بلا حياء منه، وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه! ويتظاهر بالخير والإخلاص والاستحياء.
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها، وتدع هذا النموذج حيًا يتحرك، تقول في غير تردد: هذا هو هذا هو الذي عناه القرآن وأنت تراه أمامك ماثلًا في الأرض الآن، وفي كل آن.
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم، واللدد في الخصومة، والقسوة في الفساد، والفجور في الإفساد.. في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. حسبه ففيها الكفاية.. جهنم التي وقودها الناس والحجارة.. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون.. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة.. جهنم التي لا تبقي ولا تذر.. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ.. حسبه جهنم ولبئس المهاد. ويا للسخرية القاصمة في ذكر المهاد هنا، ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء.
ذلك نموذج من الناس.. يقابله نموذج آخر على الطرف الآخر من القياس:{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} ويشري هنا معناها يبيع، فهو يبيع نفسه كلها لله، ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله.. ليس له فيها شيء، وليس له من ورائها شيء.. بيعة كاملة لا تردد فيها، ولا تلفت، ولا تحصيل ثمن، ولا استبقاء بقية لغير الله.
يشتري نفسه بكل أعراض الحياة الدنيا ليعتقها ويقدمها خالصة لله، فهو يضحي بكل أعراض الحياة الدنيا، ويخلص بنفسه مجردة لله، وقد ذكرت الروايات سببًا لنزول هذه الآية، قال ابن كثير في التفسير:’ قال ابن عباس، وأنس، وسعيد بن المسيب، وأبو عثمان النهدي، وعكرمة، وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلم بمكة، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله; فأنزل الله فيه هذه الآية ; فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة، فقالوا له: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك، فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية ويروى أن رسول الله ص قال له: ]رَبِحَ الْبَيْعُ صُهَيْبَ]‘ .اهـ
وسواء كانت الآية نزلت في هذا الحادث، أو أنها كانت تنطبق عليه؛ فهي أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد: وهي ترسم صورة نفس، وتحدد ملامح نموذج من الناس، ترى نظائره في البشرية هنا وهناك.
والصورة الأولى: تنطبق على كل منافق مراء، ذلق اللسان، فظ القلب، شرير الطبع، شديد الخصومة مفسود الفطرة.
والصورة الثانية: تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان، متجرد لله، مرخص لأعراض الحياة.
وهذا وذلك نموذجان معهودان في الناس; يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان، ويتعلم منهما الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول، وطلاوة الدهان، وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة والنبرة المتصنعة، والنفاق والرياء، والزواق، كما يتعلمون منهما كيف تكون القيم في ميزان الإيمان.
الدرس الثاني: دعوة لصدق الإلتزام بالإسلام وتحذير من الشيطان: وفي ظلال نموذج النفاق الفاجر ونموذج الإيمان الخالص يهتف بالجماعة المسلمة باسم الإيمان الذي تعرف به للدخول في السلم كافة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان، مع التحذير من الزلل بعد البيان:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[208]فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[209]}[سورة البقرة].
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان، هذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة، وأول مفاهيم هذه الدعوة: أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم.. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور، أو شعور، ومن نية، أو عمل، ومن رغبة، أو رهبة لا تخضع لله، ولا ترضى بحكمه وقضاه.. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية، الاستسلام لليد التي تقود خطاهم، وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد، وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن، وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية، وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا; ليخلصوا ويتجردوا، وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم في غير ما تلجلج، ولا تردد، ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلام، كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار، لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال: سلام مع النفس والضمير، سلام مع العقل والمنطق، سلام مع الناس والأحياء، سلام مع الوجود كله. وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه ونصاعة هذا التصور وبساطته إنه إله واحد يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه; فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل، ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية-، إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة، وهو إله قوي قادر عزيز قاهر فإذا اتجه إليه المسلم؛ فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود، وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح، ولم يعد يخاف أحدًا، أو يخاف شيئا، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر، ولم يعد يخشى فوت شيء، ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء، وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم وضمان من الهوى وضمان من البخس.
ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان، وهو رب رحيم ودود منعم وهاب، غافر الذنب، وقابل التوب، يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، فالمسلم في كنفه آمن، آنس، سالم غانم مرحوم، إذا ضعف مغفور له متى تاب، وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام ; فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب وبين الخالق والكون وبين الكون والإنسان.
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله من شأنها أن ترفع ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته، فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله; وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه; وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض، وتحقيق منهج الله فيها، فأولى به ألا يغدر ولا يفجر; وأولى به ألا يغش ولا يخدع; وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر; وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة، ولا وسيلة خسيسة، وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور، فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة، والعمل الدائب في حدود الطاقة.
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق، فهو يعبد في كل خطوة; وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدًا إلى الله في كل نشاط، وفي كل مجال. وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله في طاعة الله؛ لتحقيق إرادة الله، وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة، والسلام، والاستقرار، والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق، وبلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد، أو ضياع الجزاء، ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى، وهو يقاتل أعداء الله وأعدائه، فهو إنما يقاتل لله وفي سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، ولا يقاتل لجاه، أو مغنم، أو نزوة، أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله قانونه قانونه، ووجهته وجهته، فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد، ولا بعثرة للطاقة، وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله، وهو معها يتجه إلى الله، والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة، ولتصحيح الفطرة لا تتجاوز الطاقة، ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه، ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء، ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة، ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه، يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان، هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي، والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة، التصورات المختلة الموازين.. إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان، وطمأنينة العقيدة، فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار..{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[208]فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[209]}[سورة البقرة].
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة، حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان، فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان:
إما الدخول في السلم كافة.. وإما اتباع خطوات الشيطان، إما هدى، وإما ضلال.. إما إسلام، وإما جاهلية، إما طريق الله، وإما طريق الشيطان، وإما هدى الله، وإما غواية الشيطان.
وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه فلا يتردد، ولا يتحير بين شتى السبل، وشتى الاتجاهات.. إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدًا منها بواحد كلا.. إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر، ومن كل منهج آخر، ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان.. ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بَيْنَ بَيْنَ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك، إنما هناك حق وباطل، هدى وضلال، إسلام وجاهلية، منهج الله أو غواية الشيطان، والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة، ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة التي لا ينساها إلا غافل، والغفلة لا تكون مع الإيمان، ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان
}فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وتذكيرهم بأن الله عزيز يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرضون لقوة الله حين يخالفون عن توجيهه، وتذكيرهم بأنه حكيم فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشر، وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره، ولا ينتهون عما نهاهم عنه، فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام .