شهر تُصفد وتُسلسل فيه الشياطين
لقطه
شهر تُصفد وتُسلسل فيه الشياطين
بقلم فضيله الشيخ \ سعيد عبد العظيم حفظه الله
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أما بعد،
فتصفيد الشياطين علامة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته؛ وذلك ليمتنعوا عن إيذاء المؤمنين والتشويش عليهم، وهذا التصفيد على ظاهره وحقيقته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم، وكل هذا لا يعلم كيفيته إلاالله -تعالى-.
وفي الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسولالله-صلى الله عليه وسلم- قال: (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ) [وفي رواية: (إِذَا كَانَ رَمَضَانُ)، وفي رواية أخرى: (إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ)] فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وفي رواية: (أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ)، وفي رواية: (أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ)، وفي رواية: (وَسُلسِلَتْ الشَّيَاطِينُ)، وفي حديث آخر: (وَصُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّياطينِ).
والشيطان كلمة تطلق على كافر الجن، وهي مأخوذة من شطن؛ فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر كما أنه بعيد عن كل خير، وهو فقيه في الشر، ومن فقهه في الشر أنه يُرضي الإنسان ببعض أفعال الخير ليظن أنه يحسن الصنع، وقد ذكر بعض العلماء أنه يحتمل أن يكون هذا التصفيد عن بعض الأشياء دون بعض وعن بعض الناس دون بعض، والإنسان محاط بالهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء ولذلك فهو محتاج إلى الهداية والتوفيق مع كل نَفَسٍ من أنفاسه وإلا لهلك: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾[يوسف: 53].
روى مسلم عن عبداللهبن مسعود قال: قال رسولالله-صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الجِنِّ -وفي رواية: وَقَرِينُهُ مِنْ المَلائِكَةِ- قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: (وَإِيَّايَ إِلا أَنَّ الله أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ فَلا يَأْمُرُنِي إِلا بِخَيْرٍ)
وفي القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [الزخرف:36]، ويقول -سبحانه-: ﴿وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [فصلت: 25].
والشيطان له جنود وأعوان من الجِنَّة يرسلهم على العباد يحركونهم إلى الشر تحريكًا ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [مريم: 83] وهو يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير، كما أنه في سعيه لإضلال العباد لا ينام ولو نام لاسترحنا، وكذلك أولياؤه من اليهود والنصارى والمشركين الملاحدة هم كذلك لا ينامون ويتخذهم الشيطان مطية وجنودًا ينفذ بهم مخططاته وأهدافه، فعلى كل مسلم أن يحذر وساوس شياطين الإنس والجن في هذا الشهر المبارك حتى لا يفسدوا عليه صيامه ويكون حظه منه مجرد الجوع والعطش، وقد رأينا كيف يحشدون الأفلام الخليعة والفوازير الساقطة والرقصات الماجنة، وكل ما من شأنه أن يضيع على العباد ثمرة التقوى ويجعلهم يخرجون من هذا الشهر كما دخلوا فيه، وكل ذلك بحجة «تسالي رمضان».
والشيطان في تغريره بعباداللهيسلك سبلا كثيرة؛ فتارة يحَسِّن لهم الباطل ويكرِّه إليهم الحق كما قال لرب العزة: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ ولأغوينهم أَجْمَعِينَ . إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 39-40] فيُزيِّنُ لهم الفعل الذي يضرهم حتى يخيل إليهم أنه أنفع الأشياء، وينفِّرهم من الفعل الذي هو أنفع الأشياء لهم حتى يخيل لهم أنه يضرهم، والإنسان إذا زُيِّن له الباطل فرآه حسنًا فإنه يندفع بكل قواه لتحقيق ما يراه حقًا وإن كان فيه هلاكه ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: 103-104]، ومن عجيب الأمر أنك قد تجد هؤلاء يصدون الناس عن دينالله، ويحاربون أولياءاللهوهم يظنون أنهم على الحق المبين.
ومن تزيين الباطل: تسمية الأمور المحرمة بغير اسمها تحبيبًا لها في نفوس الخلق؛ كتسمية الفحش والتفحش تسالي، وتسمية الربا بالفائدة، والرقص والغناء والتمثيل فنًا، ورائدهم في ذلك هو إبليس الذي قال لآدم عن الشجرة التي نهي عن الأكل منها: ﴿هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ [طه: 120].
وتارة يسلك بالعبد إما مسلك الإفراط وإما مسلك التفريط، وكأنه لا سبيل للاستقامة ولا للعدل والاعتدال، فيأتي العبد فيقول له: إذا رقدوا فلا ترقد، وإذا أفطروا فلا تفطر، ولا تأكل اللحم أو تتزوج النساء، وإذا وجد فيه فتورًا وتوانيًا ثبطه وأقعده عن كثير من أبواب البر والصلاح؛ فلا يخرج لأداء صلاة الجماعة في المسجد، ولا يحرص على صلاة التراويح، بل يجلس أمام التلفزيون يطالع الفوازير والمسلسلات التي تفسد ولا تصلح وتضر ولا تنفع.
وقد ينام عن صلاة الفجر فلا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس؛ ففي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة -رضي الله عنه-أن رسولالله-صلى الله عليه وسلم- قال: (يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلاَثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ كل عقدة مَكانَها: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ الله انْحَلَّتْ عُقَدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطاً طَيِّبَ النَّفْسَ، وَإِلاَّ أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلاَنَ).
وسئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن رجل نام ليلة حتى أصبح فقال: (ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ) [رواه البخاري ومسلم]
فعلى العاقل اللبيب أن يعمل على الحزم، وإلا فالشيطان يحبب إليه الكسل، ويُسوف العمل، ويسند الأمر إلى طول الأمل ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا﴾[النساء: 120] وهو عندما يشغل الإنسان بالأماني المعسولة الكاذبة يظهر الشر والإفساد في قوالب النصح والإرشاد ﴿وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾[الأعراف: 21]
فأقسم لأبينا آدم وأمِّنا حواء أنه لهما لناصح، ولذلك يقول العلماء: «من خدعنا بالله انخدعنا له»؛ وذلك لأن نبياللهآدم لم يعهد من قبل أن يجد مخلوقًا يحلف بالله كذبًا ولذلك استجاب لإبليس.
ومن أمثلة ذلك أيضًا: قصة برصيصا العابد التي يرويها المفسرون عند قوله -تعالى-: ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ﴾[الحشر: 16]، وكيف أنه تدرَّج في إضلاله فجعله يحادث الفتاة ثم يدخل عليها حجرتها حتى وقع عليها، ثم جعله يقتل صغيرها ثم قتلها هي مخافة الفضيحة ثم يكشف أمره لإخوتها الثلاثة بعد رجوعهم من سفرهم، فلما أوثقوه على الخشبة ليقتلوه أتاه الشيطان فقال له: قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنك بالمرأة حتى أحبلتها وذبحتها وابنها فإذا أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصوَّرك خلصتك مما أنت فيه، فكفر العابد، فلما كفر بالله -تعالى- خلَّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه.
والشيطان في وسوسته يلجأ إلى الدخول في النفس من الباب الذي تحبه وتهواه، ومن ذلك قوله لآدم وحواء: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: 20] وذلك لأنه أحس منهما ميلا وركونًا إلى الخلد في دار النعيم، فما زال يوسوس حتى أنسى آدم ما أمره ربه به، ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: 115]
وإنساؤه العبد ما فيه خيره وصلاحه من جملة المسالك التي يسلكها في إضلال العباد، قال -تعالى-: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾[الأنعام: 68]، وقال يوشع بن نون صاحب موسى -عليه السلام-: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف:63].
وهو دائمًا يحاول أن يستدرج العباد إلى عقبة من العقبات السبعة وهي: الكفر، والبدعة، والكبيرة، والصغيرة، وتقديم الأمور المفضولة على الأمور الفاضلة، والإسراف في المباحات، واستجلاب الأذى على أولياءالله، بل هو يسعى أيضًا في تخويف المؤمنين أولياءه، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان؛ قال -تعالى-: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].
والشيطان جاثم على قلب العبد فإذا سها وغفل وسوس له الشيطان كما يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-، وقد أخبرنااللهبذلك إذ سماه ﴿الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس: 4-5]. وفي «صحيح البخاري» أن رسولالله-صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي من ابنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ).
وقد يتشكك العبد في إيمانه، وتتزلزل قدمه بسبب كثرة الوساوس التي يشعر بها إذا همَّ بطاعة ربه، فإذا وجد ذلك فعليه أن يقول آمنت بالله، ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويشغل نفسه بطاعة ربه أو بأمر مباح، ولا يعقد مناظرة مع الشيطان؛ لأنه كلما فرغ من وسوسة وجد أخرى، وقد قال ابن عباس -رضي الله عنهما- لمن سأله عن مثل ذلك: «قل: ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالأخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]» [رواه أبو داود]
ولا تحكِ هذه الوساوس لأحد، واعلم أنها لن تضرك بإذنالله؛ فقد جاء البعض إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يومًا كما في «صحيح مسلم» فسألوه: (إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال: أَوَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صَرِيحُ الإِيمَانِ) وذلك لكراهيتهم لهذه الوساوس.
وروى أبو داود في سننه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه رجل فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه يُعَرِّض بالشيء لأن يكون حُممةً أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الله أكبر، الله أكبر، الحَمْد لله الَّذِي رَدَّ أَمْرَهُ إِلَى الوَسْوَسَةِ).
ولا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص؛ لقولالله -تعالى-: ﴿إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر: 40] ولذلك كان بعض الصالحين يقول لنفسه: «أخلصي تتخلصي»، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم فهو القادر -سبحانه- على رد كيده ودفع وسوسته ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 76].
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.