سن اليأس.. وسن التكريم -- موضوع مميز من فضلكم اقرأوه

ليس العنوان الفرعي عنوان فيلم بوليسي، أو خبراً صحفياً يحمل في طياته عنصر التشويق، بل هو حقيقة واقعه قامت فيها الحكومة البريطانية ممثلة بالمجلس البلدي في مدينة مانشستر بالبحث عن والدي عندما بلغ هذا العام الستين من عمره لإيصال مجموعة من الامتيازات له، أولها هوية الباص و القطار المجانية التي تخوّله ركوب جميع أنواع الباصات و القطارات بالتذاكر الغالية و الرخيصة الثمن مجاناً بمجرد إبراز الهوية للسائق، و التي تحمل الصورة و البيانات العمرية لصاحب الهوية.



لم تقم الجهات المختصة بإجراء دراسة لحال والدي، و أنه يمتلك سيارتين، و أنه لا يحتاج إلى استخدام الباص الذي لم يركبه سوى مرات تُعدّ على أصابع اليد، و أن والدي-حفظه الله-ما زال بصحته شباباً لا يحتاج إلى درج مخصص في الباص ينزل إلى مستوى الشارع حتى لا يضطر إلى رفع قدمه إلى درج الباص مما قد يؤلم ظهره. إن هذا الامتياز مكفول بحق المواطنة للفقراء و الأغنياء و الأصحاء و المرضى، حقاً تبحث الدولة بصفتها خادمة للمواطنين عنهم لإيصاله لهم حتى و لو لم يحتاجوه.



و القضية تتعدى مسألة الامتيازات النفعية؛ فهي ثقافة تُعنى بهذه الفئة العمرية من البشر، و تنظر إليهم على أنهم فئة يجب تكريمها و احترامها بعدما استنفدت جهدها في خدمة المجتمع؛ فحتى على مستوى اللغة يُطلق على كبار السن senior citizen )) أي مواطن درجة عليا، بينما في دولنا العربية فنتساهل في إطلاق صفة العجوز و الشيبة و الحج و الحجة، التي تحمل معنى تقدم السن، و ليس بالضرورة قضاء الفرض الديني، و هي في مجملها تذكرهم بكبر سنهم، و ضعفهم، و دنو أجلهم.



و في الغرب تشيع ثقافة أن الحياة تبدأ بعد الستين (life starts after 60 )؛ بمعنى أن الوقت قد حان لهذا الإنسان أن يتفرغ لنفسه فيعتني بصحته الروحية و العقلية و البدنية و الاجتماعية، فتوفر الدولة لهم برامج ترفيهية و سياحية و تعليمية، و تحرص على انخراطهم في المجتمع بدور المعلم و الموجه و الرقيب بما يتوفر لديهم من حكمة الخبرة و التجربة، و صحيح أن الكبار يعانون من تخلي أسرهم و أولادهم عنهم؛ فهذه ثقافتهم و في الغرب لا يُسأل أحد عن أحد، و لا يتحمل أحد مسؤولية الآخر، و يعيشون في ملاجئ و بيوت خاصة لهم، و لكن الدولة تقوم بدور الكفيل، و هذه الكفالة كانت فكرة إسلامية أصيلة حيث كان الرسول -صلى الله عليه و سلم- يتحمل ديون من مات من المسلمين، و ليس له ورثه أو مال و يكفل عياله، و كانت الخلافات الراشدة تؤمن للمسلمين الحاجات الأساسية من بيت مال المسلمين حتى فاض المال في عهد عمر بن عبد العزيز، و لم يجد من يأخذه زكاة أو صدقة.



والدولة في الغرب تؤمن لكبار السن من يشتري حاجياتهم، و ينظف لهم دورهم، و حتى على مستوى العاطفة و في حالة العجز الشديد من يزورهم و يتفقدهم كالابن و الابنة، و أصبح الكثير منا في الدول العربية يضع أهله في مأوى العجزة و ينبذهم، و في نفس الوقت لا تقوم الحكومات العربية بحقوقهم و بتأمين حياة كريمة لهم، و بهذا انتصر الغرب علينا بعدلهم و رحمتهم بمواطنيهم، و تحققت نبوءة عمرو بن العاص داهية العرب إذ قال: "تقوم الساعة و الروم أكثر الناس، فردّ عليه أحد الصحابة انظر ماذا تقول. فقال: ما قلت إلاّ ما سمعت من رسول الله، و إن فيهم خمس خصال: إنهم لأصبر الناس عند مصيبة، و أحلمهم عند فتنة، و أسرعهم كرة بعد فرة، و خيرهم لمسكين و يتيم و ضعيف، و خامسة حسنة أمنعهم من ظلم الملوك".



أما في دولنا العربية فعندما تبلغ المرأة بالذات سن الأربعين و ما بعد، و تصل إلى ما يُعرف طبّياً بمرحلة انقطاع الطمث( (menopause ، نقول إنها قد وصلت سن اليأس، الذي هو في حقيقته تغير جسمي هرموني طبيعي لا يتناسب بحال من الأحوال مع ما توحيه كلمة يأس من إحباط و انتظار للنهاية، يضع النساء في حالة نفسية و عقلية لتوقع الأسوأ من عجز و مرض و موت، بينما الأربعون في الثقافة الإسلامية سن اكتمال النضج أو بلوغ الأشد، كما وصف القرآن، فعندها تختمر التجارب و تتعاظم الإنجازات و هو سن النبوة المحمدية.



و لكل مرحلة عمرية شكلها و جمالها؛ فبينما يحرص العرب على إخفاء معالم العمر -كأنه وصمة عار- بالدهن و الصبغ و النفخ و السحب، يتعامل الغرب مع التغييرات العمرية كتطور طبيعي مقبول، ليس من الضرورة الاحتيال عليه إلاّ لعارضات الأزياء أو ممثلي السينما؛ فالشيب عندهم لا يمنع القوة و البأس كما قال جريرنا:



يقولُ العاذلاتُ علاك شيبٌ أهذا الشيبُ يمنعُني مراحي



و بينما يُطلب من المرأة في ثقافتنا الاستسلام لسن اليأس، يُسمح للرجل في الأربعين بتجديد شبابه بالزواج من أخرى، غالباً ما تصغره في السن كثيراً، و هذا ما يُعرف بهبة أو نزوة الأربعين، و كأن الحياة الزوجية هي فقط إشباع لرغبات الجسد و الإنجاب، فإذا ما توقفت أو قلت قدرة المرأة على ذلك وجب استبدالها بأخرى كالآلة، بينما الرجل في العرف الاجتماعي يظل فحلاً، و لو بلغ من العمر عتياً، و لا اعتبارات للبر و الرحمة و التذمم التي جعلت رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يتزوج من أرملة كبيرة ذات عيال كثر هي أم سلمة، و يُبقي على سودة بنت زمعة زوجة له رعاية لخاطرها و فضلها، و قد كبرت سنها، و لم يعد لها أرب في الحياة الزوجية.



و قد يتعذر الرجال بمرض زوجاتهم من سكري و ضغط، و أوجاع ظهر و غيرها من الأمراض المصاحبة للسن، و أعباء المرأة الزوجة و الأم، و كأنهم في منعة من هذه الأمراض التي لو أصابتهم لأفنت الزوجات أعمارهن في رعايتهم، و قليل من الأزواج يقدرون جمال المراحل العمرية المختلفة في الحياة الزوجية التي جعلت الروائية البريطانية أغاثا كريستي تجيب عندما سُئلت: لماذا تزوجت عالم آثار؟ قائلة: لأنه سيدرك قيمتي كلما تقدمت في العمر!!



و قلة قليلة كالشاعر التميمي يرى في كبر السن و حتى المرض ميزة، و يحوله في نظره و قلبه الواسع إلى حسنة؛ إذ قال عندما أخبره الطبيب أن زوجته مصابة بمرض السكري:



يا طبيبُ ترفّقْ لو كان قلبُك أمهرْ



عرفت أن حبيبتي عنقودُ موزٍ مقشّرْ



ما جئتني بجديدٍ من التحاليلِ يُذكرْ



و أيُّ شيءٍ غريبٌ للسكريِّ فيُنكرْ



أليس كلُّ حبيبتي في الأصلِ قالبَ سكّرْ؟!



في ثقافة السن عندنا مشاكل عدة؛ فنحن مصابون بوهم الخوف من التقدم في العمر، مع أننا كأبناء ثقافة عربية إسلامية يجب أن نكون أكثر ارتياحاً و إيماناً بأمر الأجل، و ليست المشكلة عندنا فقط في تقدم العمر، بل أيضاً في بدء التكليف عندما استوردنا من الغرب المفهوم السلبي، و هو مرحلة سن المراهقة الذي يستمر حتى أوائل العشرينيات، و هو بمثابة فترة سماح، و كأن الإنسان فيها مجنون لا يُؤاخذ على تصرفاته، و حتى هذه في الغرب أحسن حالاً؛ إذ يُفتح المجال بعد ذلك للعمل و المسؤولية، و لكننا نغلقه على الأربعين بسن اليأس، فلا نكاد نعرف متى إذن نعقل و ننتج، و نقدم للمجتمع و الإنسانية إذا كان المتاح لنا فقط فترة عشرين سنة ما بين المراهقة و اليأس!!



في ثقافة السن فقدنا العناية و الإجلال لكبارنا، و أهملناهم، و استقوينا عليهم كأفراد و مجتمع، كما و لم تُعن الدولة بهم، و لم ترحم ضعفهم، بل عدّت واجب العناية بهم أمراً يقع على الأفراد، و لا ينتقل إليها إذا أسقطوه؛ فصار الكبار مذبوحين من ذوي القربى و من ذوي السلطان!!



إن علينا أن نطرح ثقافة التخذيل العمري التي تميتنا قبل مماتنا، و أن نستغل حياتنا بكل ما أوتينا من قوة، دون الالتفات إلى المعوقات إلاّ بالقدر الذي يمكننا من الاستعلاء عليها.



قال القريشي في وفيات الأعيان: سيروا الى الله عُرجاً و مكاسير؛ فإن انتظار الصحة بطالة